الاشراط الإجرائي، نوع من التعلم حيث يتم تحديد احتمالية السلوكيات المستقبلية من خلال العواقب التي تتبع تلك السلوكيات (كوبر، هيرون، وهيوارد، 2020). أي يعتمد على التعزيز والعقاب للسلوك، ومن خلال هذا الإشراط، يتم ربط السلوك بعواقب سواء سلبية كانت أم إيجابية مترتبة عليه. ويُشار إليه أحيانًا بالتعلم الأداتي (instrumental conditioning)، ونقصد بها أن الكائن الحي يتعلم أن يستخدم سلوكًا معينًا كـ "أداة" للحصول على نتيجة مرغوبة أو لتجنب نتيجة غير مرغوبة.
صاغ عالم النفس السلوكي ب. ف. سكينر وهو أحد أبرز شخصيات المدرسة السلوكية مصطلح الإشراط الإجرائي في ثلاثينيات القرن العشرين، مُقتديًا بأبحاث إدوارد ل. ثورندايك، الذي بحث وطور قانون الأثر. مع مرور الوقت، عدّل عالم النفس البارز جون ب. واتسون المفهوم بالتركيز على السلوكيات الخارجية، بدلًا من التركيز النفسي التقليدي على المشاعر الداخلية. وطوّر كلارك هال وكينيث سبيتش هذه الدراسات، مع أنهما درسا القوانين الرياضية التي تُحيط بالسلوك المُكتسب.
كما قام بدمج كل هذه المبادئ في ما يُعرف الآن بالإشراط الإجرائي. عارض سكينر بشدة مفاهيم "السلوكية الجديدة" لهول وسبيك، وسعى بدلاً من ذلك إلى تفسيرات أخرى للسلوكيات الخارجية، وشمل ذلك البحث في منهجيات لتعزيز هذه السلوكيات أو تعديلها. استلهم سكينر نظريات واتسون المبكرة بدراسة الأفكار والدوافع الداخلية. ثم ذهب أبعد من ذلك بدراسة التأثيرات الخارجية من خلال الملاحظات الموضوعية لبيئة الفرد للمساعدة في تقييم الأسباب المحتملة لسلوكه. رتّب سكينر أفكار واتسون على أساس اعتبار عواقب سلوك معين أولوية قصوى، مع مراعاة العوامل البيئية، بالإضافة إلى مهارات الفرد. بهذه الطريقة، ظلّ سكينر مُركّزًا على كيفية تأثير عواقب أفعال الناس على سلوكهم المُستقبلي، كما أخذ في الاعتبار كيفية تأثير التعزيز والعقاب.
في نموذج سكينر، تُحافظ السلوكيات على نفسها من خلال العواقب، وهي قابلة للتغيير، أي أنه في حال توقف التعزيز أو العقاب، قد يعود السلوك إلى حالته الأصلية من خلال عملية تُسمى الإطفاء. على الرغم من أن بداية الإشراط الإجرائي كانت مبنية بشكل أساسي على النماذج الحيوانية، إلا أن استخدامه تطور إلى تطبيقات أكثر تطورًا، وأصبح مُعتمدًا كأحد الممارسات الأساسية في تحليل السلوك التطبيقي. يؤمن الإشراط الإجرائي (Operant Conditioning) بأن سلوكيات الأفراد يمكن تعديلها بمرور الوقت من خلال التعزيز. تُعتبر هذه الفكرة بسيطة ومباشرة، أي فعل يتبعه تعزيز (مكافأة) سيتعزز، مما يزيد من احتمالية تكراره في المستقبل. على سبيل المثال، إذا قمت بسرد نكتة في الفصل الدراسي وتلقيت ضحكات من الجميع، فإن هذه الاستجابة الإيجابية ستشجعك على تكرار هذا السلوك في مناسبات لاحقة.
أحدثت مبادئ سكينر في التعلم الشرطي ضجةً كبيرةً في عالم النفس في أوائل القرن العشرين، يُمكن تطبيق مبادئها على البالغين والأطفال على حدٍ سواء، بل يُمكن استخدامه لتدريب الحيوانات الأليفة، واستمرت في التطور والتحسين حتى القرن الحادي والعشرين عبر أشكال أخرى مُستهدفة وقائمة على البيانات، مثل علاج تحليل السلوك التطبيقي، ويُعتبر برامج تعديل السلوك اليوم المعيار الذهبي لعلاج وتحسين سلوكيات الأفراد المُصابين باضطراب طيف التوحد والإعاقات التطورية الأخرى.
إذا رفعتَ يدكَ لطرح سؤال، وأشادَ مُعلِّمُكَ بسلوككَ المهذب، فستكون أكثرَ ميلاً لرفع يدكَ في المرةِ التاليةِ التي يكونُ لديكَ سؤالٌ أو تعليقٌ فيها. لأنَّ هذا السلوكَ قد تبعه تعزيزٌ، أو نتيجةٌ مرغوبة، فإنَّ الفعلَ السابقَ يُعزَّز. في المقابل، تُضعَفُ الأفعالُ التي تُؤدِّي إلى عقابٍ أو عواقبَ غيرِ مرغوبة، ويقلُّ احتمالُ تكرارِها في المستقبل. إذا رويتَ نفسَ القصةِ مُجدَّداً في حصةٍ أخرى، ولكن لم يُضحكْ أحدٌ هذه المرة، فستقلُّ احتماليةُ تكرارِ القصةِ مُجدَّداً في المستقبل. إذا صرختَ بإجابةٍ في الصفِّ ووبّخكَ مُعلِّمُكَ، فقد تقلُّ احتماليةُ مُقاطعتكَ للصفِّ مُجدَّداً.
ميّز سكينر بين نوعين مختلفين من السلوكيات:
السلوكيات الاستجابية (Respondent behaviors): هي تلك التي تحدث تلقائيًا وبشكل لا إرادي، مثل: سحب يدك من موقد ساخن أو هز ساقك عندما ينقر الطبيب على ركبتك. ليس عليك تعلم هذه السلوكيات، فهي ببساطة تحدث تلقائيًا وبشكل لا إرادي.
السلوكيات الإجرائية (Operant behaviors): هي تلك التي نتحكم بها بوعي. قد يحدث بعضها تلقائيًا والبعض الآخر عمدًا، لكن عواقب هذه الأفعال هي التي تحدد ما إذا كانت ستتكرر في المستقبل أم لا. تُشكل أفعالنا تجاه البيئة وعواقبها جزءًا مهمًا من عملية التعلم.
أدرك سكينر أن الإشراط الكلاسيكي (مثل تجربة بافلوف مع الكلاب) يفسر فقط السلوكيات التي تحدث بشكل تلقائي كاستجابة لمثير معين (مثل سيلان اللعاب عند رؤية الطعام). هذه السلوكيات تسمى سلوكيات المستجيب. لكن سكينر رأى أن معظم سلوكياتنا اليومية ليست تلقائية، بل هي سلوكيات إرادية أو "سلوكيات إجرائية" نقوم بها للحصول على نتيجة معينة.
اخترع سكينر أجهزة مختلفة خلال طفولته ووضع هذه المهارات موضع التنفيذ أثناء دراسته الإشراط السلوكي. ابتكر جهازًا يُعرف باسم غرفة الإشراط الإجرائي، وغالبًا ما يشار إليه اليوم باسم صندوق سكينر. يمكن أن تحتوي الغرفة على حيوان صغير، مثل فأر أو حمامة. يحتوي الصندوق أيضًا على قضيب أو مفتاح يمكن للحيوان الضغط عليه للحصول على مكافأة. ولتتبع الاستجابات، طور سكينر أيضًا جهازًا يُعرف باسم
Skinner box or operant conditioning chamber experiment outline diagram
المسجل التراكمي (Cumulative Recorder)، الذي كان بمثابة ابتكار مهم لتتبع السلوك بشكل موضوعي، يقوم بتسجيل كل استجابة (مثل الضغط على القضيب) كخطوة تصاعدية على رسم بياني، كلما كان الخط أكثر انحدارًا، كان معدل الاستجابة أسرع، مما سمح لسكنر بتحليل العلاقة بين التعزيز والسلوك بدقة. مكنت هذه الأدوات سكينر من دراسة معدلات الاستجابة تحت ظروف مختلفة من التعزيز والعقاب، مما قدم أدلة تجريبية قوية على نظريته في الإشراط الإجرائي.
والهدف الأسمى الذي توصل له سكينر أن السلوك محكوم بنتائجه (Behavioral Consequences)، فالسلوك الذي تكون نتائجه إيجابية (معززة) تزداد احتمالية تكراره في المستقبل وفي ( تعميم ) المواقف المشابهة، وإذا كانت نتائجه سلبية
(مؤلمة) فإن احتمالية التكرار تقل في المستقبل وفي المواقف المشابهة. فالتعلم يحدث بعد مرور الفرد بالخبرة السلوكية فهي التي تحدد احتمالية تكرار الاستجابة من عدمه.
توجد العديد من المفاهيم الأساسية في الإشراط الإجرائي، يمكن أن يؤثر نوع التعزيز أو العقوبة المستخدمة على كيفية استجابة الفرد وتأثير التكييف، من هذه المكونات:
1-التعزيز (reinforcement): أي إجراء يُقوّي السلوك الذي يتبعه أو يزيده. هناك نوعان من التعزيزات، في كلتا الحالتين، يزداد السلوك، وهي:
2- العقاب (punishment): هو تقديم حدث أو نتيجة سلبية تُسبب انخفاضًا في السلوك الذي يتبعه. هناك نوعان من العقاب، في كلتا الحالتين، ينخفض السلوك، وهي:
يُعدّ الاستخدام الاستراتيجي للتعزيز والعقاب أحد المبادئ الأساسية للتعلم الشرطي الإجرائي. يتضمن ذلك تعزيز السلوكيات الإيجابية بالمكافآت، وتطبيق عقاب مُقاسٍ على السلوكيات السلبية. الهدف الأسمى هو أن يحل السلوك الإيجابي المُكافأ محل السلوك السلبي المُعاقب عند زواله.
ولن ننسى أن نشير إلى أن من أهم نتائج أبحاث سكنر أنه قدم لنا ما يسمى بجداول التعزيز (Schedule of Reinforcement)، والأهم من هذا كله أن إجراءات تعديل السلوك إنما جاءت ثمرة لأعماله التي أسهمت في تطوير العلاج السلوكي.
يتضمن الإشراط الإجرائي بعض المفاهيم الأساسية، فهمها بتفصيل أكبر يساعدك على فهم فوائد مدرسة فكرية معينة على أخرى في تلبية احتياجات الفرد. من هذه الأساسيات:
أفضل طريقة لفهم الكائن الحي هي من خلال سلوكه: يركز تحليل السلوك التطبيقي على السلوك وليس المشاعر أو الأفكار، لأن السلوك قابل للملاحظة. يمكن قياس السلوك كميًا، مما يساعد في جمع البيانات.
إن التعلم الشرطي لا يقتصر على المختبرات والحيوانات أو برامج تعديل السلوك للأطفال، بل يُطبق في العديد من جوانب حياتنا:
في بيئة العمل: تستخدم الشركات التعزيز، مثل: المكافآت المالية والترقيات لزيادة إنتاجية الموظفين. عندما يتجاوز الموظف أهدافه، يُكافأ ماليًا، مما يعزز لديه سلوك تحقيق الأهداف.
في العلاقات الأسرية: يمكن للوالدين استخدام تحفيز الدافعية وتعزيز السلوكيات الجيدة، إذا قام الطفل بترتيب غرفته، قد يمنحه الوالدان وقتًا إضافيًا للعب أو الثناء عليه، مما يعزز سلوك المسؤولية.
في التدريب الرياضي: يستخدم المدربون الاشراط السلوكي لتقوية المهارات، عندما ينجح لاعب كرة سلة في رمية حرة، يثني عليه المدرب، مما يعزز لديه الثقة في تكرار الرمية بنجاح.
في التقنيات الحديثة: تعتمد العديد من التطبيقات الرقمية على مبادئ الإشراط الإجرائي، على سبيل المثال: تطبيقات اللياقة البدنية التي تمنح نقاطًا أو شارات عند إكمال هدف رياضي، أو تطبيقات تعلم اللغات التي تقدم مكافآت عند إنجاز الدروس.
1-ما الفرق بين الإشراط الإجرائي والإشراط الكلاسيكي؟
-الإشراط الإجرائي يركز على سلوكيات إرادية تصدر عن الفرد بناءً على عواقبها، بينما الإشراط الكلاسيكي يركز على سلوكيات لا إرادية (استجابية) تحدث كرد فعل لمثير معين.
2-كيف أستخدم الإشراط الإجرائي في تربية الأطفال؟
-يمكنك استخدام مبادئ التعزيز الإيجابي لمنح مكافآت أو ثناء على السلوكيات الجيدة، وتجاهل السلوكيات السلبية (الإطفاء) أو استخدام العقاب السلبي (إزالة شيء مرغوب فيه) للتقليل منها.
3-ما هي تطبيقات الإشراط الإجرائي في العلاج النفسي؟
- أبرز تطبيق هو العلاج السلوكي، خاصة تحليل السلوك التطبيقي (ABA)، الذي يستخدم لتدريب الأفراد ذوي الاحتياجات الخاصة على المهارات الأساسية.
4-هل هناك سلبيات للإشراط الإجرائي؟
-قد يؤدي الاعتماد المفرط على التعزيز إلى ضعف الدافعية الذاتية، كما أن استخدام العقاب قد يكون له آثار سلبية إذا لم يتم تطبيقه بشكل صحيح.
5- كيف يطبق الإشراط الإجرائي في علاج الإدمان؟
- تُستخدم برامج مثل إدارة الطوارئ (Contingency Management) لتقديم مكافآت ملموسة (مثل قسائم أو مكافآت نقدية) للأشخاص الذين يظهرون سلوكيات مرغوبة، مثل: تقديم عينة بول خالية من المخدرات، هذا يعزز الامتناع عن التعاطي.
6-كيف يمكن الاستفادة من هذه المبادئ في بيئة العمل الحديثة؟
-يمكن للمديرين تطبيقها من خلال أنظمة المكافآت التي تعزز السلوكيات الإنتاجية، وتقديم تقييمات بناءة وفورية، وربط الأداء الفردي والمكافآت بوضوح لزيادة التعزيز الخارجي والداخلي.
7-هل يمكن استخدام الإشراط الإجرائي في تحسين عادات صحية لدى البالغين؟
-نعم، من خلال تحديد أهداف صغيرة قابلة للتحقيق ومكافأة النفس عند الوصول إليها (تعزيز إيجابي)، أو عن طريق تتبع العادات غير الصحية ومحاولة ربطها بنتائج غير مرغوبة (وإن كانت بسيطة).
في النهاية، يُعد الإشراط الإجرائي، أو الاشراط السلوكي، أحد أهم ركائز المدرسة السلوكية، إن فهمنا لكيفية تأثير العواقب على سلوكياتنا هو مفتاح لتعديل السلوك، سواء في بيئات التعليم، العمل، أو حتى في حياتنا الشخصية. يمكن تطبيق مبادئ التعلم الشرطي في مجالات متنوعة لتحقيق أهداف محددة، من تحسين الأداء في العمل إلى تبني عادات صحية أفضل. ندعوك للتفكير مليًا في هذه المبادئ وكيف يمكن أن تكون أداة قيمة في تطوير ذاتك وبيئتك. للمزيد من التعمق في هذا المجال، لا تتردد في استكشاف المزيد من المصادر والأبحاث حول الإشراط الإجرائي وتحليل السلوك التطبيقي.
شاركنا تجربتك، الآن بعد أن أصبحت على دراية بمبادئ الإشراط الإجرائي، فكر في سلوك معين في حياتك ترغب في تغييره. كيف يمكنك تطبيق مبدأ التعزيز أو العقاب لتحقيق هدفك؟ شاركنا أفكارك وتجاربك في تعديل السلوك في التعليقات
المصادر:
لاتوجد تعليقات